الجمعة، 15 مايو 2015

العيش الدائم في ظل الطوارئ



فيما يفترض أن يكون فرض قانون الطوارئ في أي بلد هو الحالة الاستثنائية، فإنه في مصر هو الحالة العادية، حيث اعتادت البلاد فرضه منذ أواخر ستينيات القرن الماضي، مع أنه لم يحقق مراده في تراجع العنف، بل أعطى غطاءً قانونياً لتجاوزات الأجهزة الأمنية. أما حظر التجوال، فقد حوّل القاهرة إلى مدينة أشباح .

 الطوارئ في مصر ليست مجرد قانون يُفرض في الحالات الاستثنائية والأزمات؛ فمنذ فُرض عام 1967 والمصريون لا يعرفون الحياة إلا في ظله. أُنهيت حالة الطوارئ لمدة 18 شهراً عام 1980، ثم أُعيد تفعيلها عقب اغتيال الرئيس أنور السادات، وظلّت ممتدة إلى أن قامت ثورة «25 يناير» عام 2011، التي كان على رأس مطالبها إنهاء هذا القانون، وهو ما جرى بالفعل في الذكرى الأولى للثورة.

وبما أنّ «الحرب على الإرهاب» هي شعار المرحلة الحالية، أعلن الرئيس المؤقت عدلي منصور حالة الطوارئ لمدة شهر وفرض حظر التجوال في القاهرة و 13محافظة، وذلك «لمواجهة أعمال العنف، وبعد تعرض الأمن والنظام فى الجمهورية للخطر بسبب أعمال التخريب المُتعمدة، والاعتداء على المنشآت العامة والخاصة، وإزهاق أرواح المواطنين من قبل عناصر التنظيمات والجماعات المتطرفة، والتي حصلت عقب فض اعتصامي أنصار الرئيس المعزول محمد مرسي»، بحسب بيان الرئاسة. وهكذا أصبح من حق الشرطة بالتعاون مع القوات المسلحة القبض على أي مواطن من دون إذن نيابة بمجرد الاشتباه به، ويتيح قانون الطوارئ أيضاً تفتيش الأشخاص والأماكن دون التقيد بأحكام قانون الإجراءات الجنائية. فهل نجحت هذه الإجراءات الاستثنائية في الحدّ من أعمال العنف وحماية المواطن؟

يؤكد الخبير الأمني والعسكري، اللواء محمود زاهر، لـ«الأخبار» أن «حالة الطوارئ ما هي إلا تسريع واختصار لإجراءات الضبط وتحويلها للنيابة العامة في أقل وقت ممكن كي لا يفلت المتهم من يد قوات الأمن، وبذلك يختصر 48 ساعة من الممكن أن يهرب فيها المجرم».

ويضيف أن قانون الطوارئ «لا يمثل أي تهديد على أمن المواطنين، وغرضه ضبط الأمن في الشارع والسيطرة على الخارجين عن القانون»، موضحاً أنّ من الممكن أن يشعر المواطن بعدم الأمان في ظل قوانين غير استثنائية من خلال التطبيق غير المهني للقانون والالتفاف عليه من قبل قوات الأمن.

رغم ذلك، فقد جاء تقريرا منظمتي «العفو» الدولية و«هيومان رايتس ووتش»، ليحمّلا الأجهزة الأمنية المصرية المسؤولية عن التقاعس عن حماية الكنائس والمواطنين الأقباط، وذلك بعد ازدياد حوادث العنف الطائفي عقب فض اعتصامي «رابعة العدوية» و«النهضة». ووصفت «العفو» بأنّه تقصير صادم من قوات الأمن في أداء واجبها، فيما طالبت «هيومان رايتس ووتش» السلطات المصرية باتخاذ الخطوات اللازمة لحماية الكنائس والمنشآت الدينية من هجمات «الحشود الغوغائية»؛ فالمعتدون هاجموا ما لا يقل عن 42 كنيسة وأحرقوا أو دمروا 37 كنيسة، فضلاً عن عشرات المنشآت الدينية المسيحية الأخرى في محافظات المنيا وأسيوط والفيوم والجيزة والسويس وسوهاج وبني سويف وشمال سيناء.

في المقابل، كشفت تحقيقات النيابة العامة عن تورط الشرطة في قتل 37 متهماً، من بينهم أعضاء في جماعة «الإخوان المسلمين»، لقوا حتفهم في سيارة ترحيلات قسم شرطة مصر الجديدة داخل أسوار سجن أبو زعبل أثناء تنفيذ قرار النيابة بحبسهم احتياطياً. وبحسب تقرير مفتش الصحة، الذي عاين الجثث، والتقرير المبدئي للطب الشرعي، لقى القتلى مصرعهم خنقاً بالغاز. غير أن التحقيقات نفت وقوع أي محاولات للاعتداء على سيارة الترحيلات التي كانت تنقل المتهمين، سواء بالأسلحة النارية أو غيرها من أنصار الرئيس المعزول.

وفي حادثة أخرى تكشف انعدام الأمن ووقوع الانتهاكات في ظل الطوارئ، أطلقت قوات إحدى نقاط التفتيش العسكرية، في محافظة البحيرة النار أثناء حظر التجوال على سيارة صحفيين، كانا عائدين من لقاء مع المحافظ، ما أدى إلى قتل أحدهما ويدعى تامر عبد الرؤوف، وهو المدير الإقليمي لمكتب جريدة «الاهرام»، فيما أُصيب الآخر، وهو حامد البربري، الصحفي في جريدة «الجمهورية» بطلق ناري. وقال بيان القوات المسلحة، إن السيارة حاولت الهرب من نقطة التفتيش، لكن البربري نفى ذلك، وهو ما وثقته منظمة «مراسلون بلا حدود»، مؤكدةً أن الصحفيين امتثلا لأوامر الجيش ولم يهربا.

حظر التجوال لم يكن فقط سبباً في مقتل أحد الصحفيين، ولكن آثاره امتدت لتحول القاهرة، المدينة التي لا تنام، إلى مدينة أشباح بمجرد أن تدق الساعة السابعة مساءً، وذلك قبل تعديل مواعيد الحظر إلى الحادية عشرة؛ فقبل ميعاد الحظر، كان المواطنون يهرعون إلى منازلهم كي لا يضطروا إلى قضاء ليلتهم مشردين يبحثون عن طريق لا تعترضه نقاط التفتيش ليصلوا إلى بيوتهم. عوامل جعلت من ساعات ما قبل الحظر جحيماً أزلياً لكل مواطن؛ فمترو الأنفاق يمتلئ الى حدّ يكاد فيه ينفجر من شدّة الازدحام، ويسير بأبواب مفتوحة، ما يشكل خطراً على حياة الركاب، فيما تكون سيارات الأجرة مكتظة، لدرجة أن بعض المواطنين يعتلون سقف السيارة ويغامرون بحياتهم في سبيل العودة إلى المنزل والخوف من الاعتقال بتهمة خرق حظر التجوال.

وعن استمرار حالة الطوارئ، يقول رئيس الحكومة حازم الببلاوي إن حكومته لا ترغب في فرض إجراءات استثنائية، مشيراً إلى أن حالة الطوارئ هي «إجراء مؤقت ولن يستمر إلى ما لانهاية»، ولمّح إلى أنّ من الممكن مد حالة الطوارئ إلى 3 أشهر، حسب الحالة الأمنية.

بدوره، علق القيادي في حزب «الدستور»، خالد داوود، المتحدث السابق لـ«جبهة الإنقاذ الوطني»، في حديث لـ«الأخبار» على تصريحات الببلاوي بالقول إن الشعب المصري لن يقبل باستمرار الطوارئ، ولا بد أن تتفهم الحكومة أنه يجب إنهاؤها؛ لأن القانون الطبيعي كاف لحفظ الأمن، والشعب لا يمكنه تحمل فرض حظر التجوال أكثر من ذلك.

وما بين حكومة وأجهزة أمنية تؤكد أن الطوارئ تحفظ الأمن، ووقائع تثبت عكس ذلك، يقع المواطن بين شقي الرحى، فهو الذي يعاني في جميع الأحوال سواء من غياب الأمن، أو من وجود ممارسات خاطئة للطوارئ من قبل قوات الأمن. يبقى أن الأيام القادمة ستثبت إن كان قانون الطوارئ هو عودة لعصر مبارك، أو أنه مجرد إجراء استثنائي وسينتهي.

 نشر في الأخبار اللبنانية بتاريخ 7 سبتمبر العدد ٢٠٩٨  http://www.al-akhbar.com/node/190610

المحاكم العسكرية مستمرة رغم أنف الثورة


«الثوار مش بلطجية ليه نتحاكم عسكرية» و«قولنا عيش عدالة حرية مش محاكم عسكرية»، هتافات صدحت بها الحناجر على مدار عامين من عمر الثورة المصرية، لتؤكد حق المصريين في محاكمات مدنية عادلة. هدفٌ ظل بعيد المنال عن المصريين وثورتهم حتى الآن

 المحاكمات العسكرية للمدنيين سيف سُلّط على رقاب المصريين، وحصد حريتهم واحداً تلو الآخر، بمجرد أن وطئت قدم أول جندي من قوات الجيش المصري للشارع بعد انسحاب الشرطة في 28 كانون الثاني 2011 وإعلان حظر التجوال حينها بدعوى مواجهة حالة الانفلات الأمني والبلطجة. القانون المصري يتيح هذا النوع من المحاكمات وفق قانون المحاكم العسكرية الصادر في 1 حزيران 1966، وهو قانون لا يزال مستمراً حتى الآن، وينص في مواده على أنّ «السلطات القضائية العسكرية هي وحدها التي تقرر ما إذا كان الجرم داخلاً في اختصاصها أو لا»، ما يعني عدم إمكانية نقض أحكامها بعدم الاختصاص في أي قضية مهما كان موضوعها أو مرتكبها. وتحدد المادة الخامسة النطاق المكاني للجرائم التي تقع تحت طائلته في «أي جريمة تُرتكب بأي مكان يشغله العسكريون لصالح القوات المسلحة أينما وجد، بما في ذلك المحلات والمؤسسات والأماكن»، وهو نطاق واسع للغاية وحتماً سيوجد فيه مدنيون. كذلك لم يستثن القانون الأحداث الذين تقل أعمارهم عن 18 عاماً.

تقول الناشطة الحقوقية، منى سيف، عضو «لا للمحاكمات العسكرية للمدنيين»، المجموعة التي دُشنت للدفاع عن حق المدنيين في محاكمة عادلة أمام قضاء مدني، مع المطالبة بحظر المحاكمات العسكرية للمدنيين، في حديث لـ«الأخبار» إن أعداد الذين حوكموا أمام القضاء العسكري يقدرون بالآلاف، ولا إحصائية دقيقة تستطيع من خلالها حصرهم حتى الآن. وتؤكد أن الكيان الوحيد القادر على تحديد ذلك هو القضاء العسكري، الذي أعلن من خلال رئيسه في ذلك الوقت، وبالتحديد في أيلول 2011، أن عدد الذين مثلوا أمام القضاء العسكري منذ كانون الثاني من نفس العام وحتى آب يقدر بنحو 12000 مدني، مؤكدة أن المحاكمات العسكرية لم تتوقف حتى الآن، وأن وتيرتها تزيد وتقل حسب انتشار قوات الجيش في الشوارع، ورغم ذلك لم ترد أية تحديثات لهذا الرقم.
وعلى الرغم من معاناة تيار الإسلام السياسي، وخصوصاً جماعة «الإخوان المسلمين» من الأحكام العسكرية منذ حُكم الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، غير أنهم عندما صعدوا إلى سدّة الحكم في مصر، سواء من خلال حصولهم على أغلبية برلمانية أو وصولهم إلى مقعد الرئاسة عقب ثورة «يناير»، لم يتخذوا أية تشريعات تحمي المدنيين من المحاكمات العسكرية. وتؤكد سيف أن المجموعة عرضت اقتراحاتها على تأسيسية الدستور الجديد في 2012، التي كانت غالبيتها من التيارات الاسلامية لحظر المحاكمات العسكرية للمدنيين. وبالفعل، استُجيب للاقتراحات في البداية، وأُقرّت مادة دستورية بذلك، ولكن عند عرض المسودة النهائية للدستور فوجئوا بوجود المادة 198 التي تجيز محاكمة المدنيين عسكرياً في «الجرائم التي تضرّ بالقوات المسلحة، ويحدّد القانون تلك الجرائم»، أي إن المادة لم تُبقِ فقط على المحاكمات، بل تركت ايضاً تنظيم اختصاصها للقانون العسكري.
وتضيف سيف أنه: «بعد تعطيل دستور 2012 وعزل الرئيس محمد مرسي في «30 يونيو»، تجاهلت لجنة العشرة التي شكلها الرئيس المؤقت عدلي منصور لتعديل الدستور المعطل مطالب إلغاء المحاكمات العسكرية ضدّ المدنيين، وكذلك الملاحظات التي تضمنتها مذكرة المجموعة التي سُلِّمت للجنة في إنذار رسمي، غير أن مسودة التعديل التي سُلِّمت للجنة الخمسين أبقت على النص الخاص بجواز محاكمة المدنيين عسكرياً بعد تعديل إحالتهم على تلك المحاكم في (الجرائم التي تضر بالقوات المسلحة) إلى (الجرائم التي تُمثل اعتداءً مباشراً على القوات المسلحة)».
ولعل حادثة لاعب نادي الزمالك محمود عبد الرازق «شيكابالا»، التي أثارت الوسط الرياضي أخيراً، تعكس استخدام ضباط القوات المسلحة لسيف المحاكمات العسكرية. فقد أمرت النيابة العسكرية بضبط «شيكابالا» وإحضاره
، على خلفية مشادة وقعت بين اللاعب وضابط في القوات الجوية يرتدي زيه المدني صودف وجوده أثناء وصول بعثة الفريق إلى مطار الجونة بالغردقة، وكانت إشارة الضابط إلى قميصه الأحمر «لون زي النادي الأهلي غريم الفريق التقليدي»، سبباً في اشعال الأمور حتى وصلت إلى تبادل الشتائم. لكن في ما بعد، سُوِّيت القضية بالتصالح والتنازل عن المحاضر وحفظها رسمياً من جانب النيابة.
وقبل نحو أسبوع تقريباً، قضت المحكمة العسكرية في السويس بالسجن المشدد 3 سنوات لثلاثة متهمين من أنصار الرئيس المعزول محمد مرسي بتهمة كسر حظر التجوال بمسيرة تطالب بعودة الرئيس المعزول إلى منصبه، وترديد هتافات عبر مكبرات صوت تؤثر على الأمن القومي.
وتُعَدّ واقعة قبض قوات الجيش على الصحفي مراسل جريدة «المصري اليوم» أحمد أبو دراع، الحاصل على جائزة «سمير قصير» لحرية الصحافة، في 5 أيلول الجاري بسيناء الأكثر تعقيداً حتى الآن؛ فالمتحدث العسكري العقيد أحمد محمد علي يصر على أن محاكمة أبو دراع عسكرياً حق أصيل للقضاء العسكري، لا القضاء المدني؛ لأنه أذاع في الخارج والداخل بيانات كاذبة عن الأوضاع في سيناء ومصر، ووُجد في منطقة عسكرية لا يُصرَّح للمدنيين بأن يكونوا فيها. لكن خالد البلشي، عضو لجنة نقابة الصحفيين، أكد لـ«الأخبار» أن «النقابة أصدرت بياناً يرفض المحاكمات العسكرية للمدنيين عموماً، ولأبو دراع خصوصاً؛ لأن هذا يُعَدّ اعتداءً على حرية الصحافة، ولا بد للدولة أن توفر ضمانات العمل للصحفيين، وأن النقابة كلفت محاميها حضور جلسات محاكمته والضغط لتحويل القضية للقضاء المدني».
وتظل المحاكمات العسكرية للمدنيين تطارد المواطنين أينما وُجدوا بالقرب من شخص يرتدي الزي العسكري؛ فلا فرق بين مواطن معارض أو لاعب كرة متحمس لناديه أو صحفي يؤدي مهمات مهنته؛ فالكل سواء، والمساواة في المحاكمة العسكرية واجب وطني وحماية للأمن القومي!

نشر في جريدة الأخبار اللبنانية العدد ٢١١٤ بتاريخ 26 سبتمبر 2013 http://www.al-akhbar.com/node/192052